الجاسوسة الراقصة


من عجائب القدر تقلُّب الأحوال من حال إلى حال، والتاريخ شاهد على هذه النقلات، فنرى الفقير يغدو حاكما مثل (ابرهام لينكولن)، ويصبح الإمبراطور فقيرا مثل (الإمبراطور الصيني )، وتصبح ربة المنزل مشهورة مثل ( ماتا هاري)، فالقصة اليوم عن الراقصة الهولندية الشهيرة (ماتا هاري) حيث كانت تقف على نقطة لم تتوقع انها تقف على بداية مطاف حياتها!
(مارجريتا) كانت طفلة والدها المدللة، كانت الفتاة بين 4 إخْوه، وكان يلقبها والدها بالأميرة الصغيرة، ترعرعت في أسرة مترابطة مكونة من أب وأم و5 أطفال، حقق الأب ثروة بسيطة عندما عَمِل في مجال النفط ولكن لم يستمر الحال على ما هو عليه فأعلن الأب إفلاسه وهنا بدأت الأمور تتوتر في هذه الاسرة الصغيرة وبدأ الوالدان يتشاجران على أتفه الأمور وعمَّ الغضب في ارجاء المنزل، بينما وقف الأطفال باستغراب وكأنهم أصنام امام الوالدين وهما يتراشقان بالكلمات الجارحة لبعضهما إلى أن جاء ذاك اليوم عندما أعلنا الطلاق، ترك الأب الام وعلى رقبتها اطفالها الخمسة والام لم تتحمل الصدمة فماتت بعد 3 سنوات من الطلاق ..
(فالاميرة الصغيرة) وقفت مصدومة ، ماذا حصل؟ هل هذا كابوس؟! هل معقول ما يحصل؟! من ابنة مدللة إلى فتاة لا أم لها ولا أب التفت اليهم وهجرهم للأبد !! ستقلب (مارجريتا) هذه الصفحة المشؤومة من حياتها إلى صفحة ظنت أنها قد تكون الأفضل ، ولكن ؟!
توالت المصائب واحدة تلوى الأخرى، ماتت الام وهجرهم الأب، أصبحت في ليلة وضحاها من الأميرة الصغيرة إلى طفلة فقيرة نكرة، انتقلت للعيش الى منزل جدها الرجل الهولندي المُسِن وكان شديدا وملتزما يغضب على أتفه الأسباب، وكان عليها ان تلبس فستانها الساتر وتلبس قبعتها الكبيرة وتتستر، فهذا هو مجتمعهم، كبرت الفتاة وأصبحت مراهقة وكان شكلها وجمالها يختلف عن باقي الشقراوات، كان شعرها داكنا وعيناها داكنتان فصارت كالوردة، فكانت عيناها غالبا تلتفتان نحو الرجال وكأنها حنَّت الى لقب الأميرة الصغيرة بعيدا عن وجه جدها العبوس، أقسمت في نفسها انها سترجع لتكون الاميرة المدلله، مارجريتا عانت مع جدها كثيرا ولم تكن مرتاحة، لان والديها قد أفسداها من كثرة الدلال، فعندما كانت تمشي بتمايل انجذب الرجال نحوها كالمغناطيس، وهي تعمدت إغوائهم، فعندما كانت في ال16 من عمرها توجهت الى مدير المدرسة وتعمدت إلى إغوائه، فوقع الرجل في سحرها وانتهت النزوة بفضيحة مدوية أدى إلى فصلها، فحبسها جدها المتسلط بين جدران غرفتها ومنعها من الخروج، ولكن هربت هذه المتمردة إلى بيت أعمامها، ولكنها ضجرت من قيودهم أيضا،
فالحل الوحيد هو الزواج، وجدت (مارجريتا) ضالتها في إعلان وجدته في إحدى الصحف عندما قرأت عن ضابط يريد الزواج تواصلت معه، فانعجب بها الضابط (رودولف)، فتم الزواج، عروس عمرها 18عام وزوج عمره 40عام! نعم فالفرق كان بينهما كبيرا، وبعد 3أشهر من الزواج اكتشفت ان زوجها مدمن وسكِّير والادهى من ذلك فقد كان يعاني من مرض الزُهري، وأما الضابط تفاجأ ايضا انها أكبر مُسْرفة!! وكما أنه كان يشك في إخلاصها ورغم ذلك كله أنجبت منه طفلان بنت وولد،الإغواء كان في دمها، لم تصبر عن طبعها، تصفيفة شعرها الغجري، والبشرة البرونزية، والنظرات الغير طبيعية، والتمايل في المشي، كلها كانت إشارات وذبذبات كانت تبثها للرجال بطريقة غير مباشرة، اعتمدت هذه الطريقة لأسر قلوب الرجال وعندما اصطحبها زوجها معها الى إندونيسيا (مدينة جاوة)، بدأ زوجها بضربها بشدة، و كانت تتعمد حرق قلبه عندما كان الرجال ينظرون اليها وكأنهم ذئاب ينتظرون فريستها، مات ولدها البكر في ظروف غامضة، ويقال انه مات لانه كان مصابا ايضا بمرض الزُهري، لتنسى هذا الهم، بدأت تتعلم الرقص الاندونيسي التراثي، ولقبت نفسها ب(ماتا هاري) والتي تعني عين الشمس باللغة الاندونيسية ..
فبعد وفاة ابنها بسنتين تطلقت من زوجها، وانتقم منها زوجها بمنعها من رؤية ابنتها للأبد، ونشر اعلانا في الجريدة بتحذير الناس من التعامل معها لانها غارقة في الديون، ساءت حالتها المادية وبدأت بالرقص والعُري وسافرت الى باريس وهناك اخترعت رقصة شرقية خاصة بها وكانت تكذب على الناس انها من أصول بوذية وُلدت في معبد بوذي وماتت امها الراقصة الشهيرة في المعبد من آلام المخاض ولبست ملابس غريبة شبيهة باللباس الشرقي للراقصات وكان المجتمع وقتها محافظا فأصبحت في احضان الأغنياء الفرنسيين وفي الليل تتعرى أمام الرجال، سكنت في ارقى الفنادق، وتلبس أغلى الملابس والمجوهرات، ولكن مال الحرام لا يدوم كثيرا..
وقف النُقاد ضدها، ومُنِعت من الرقص على المسارح واعتبر المجتمع فنها فنا هابطا ويجب نسفه فالفن ارقى بكثير مما تقدمه هذه الراقصة، وعندما حصلت على فرصة الرقص على مسارح برلين في ألمانيا اندلعت الحرب العالمية الاولى، فأغْلقت القدر ابوابه أمام وجهها، الى ان تبرع احد تجار لها بتذكرة الى ( أمستردام ) .. وكان هدفها بأن ترجع الاضواء إليها، ولكنها لم تُدرك انها تصعد على مصعد مهزوز وسينكسر يوما!
وفي هولندا كانت بصحبة أحد الأغنياء، وفي نفس الوقت استدعاها القنصل الألماني ووضع على المنضدة 20 الف فرنك، ولكن هذه المرة ليس عليها الا ان تعمل في المخابرات الألمانية ضد فرنسا، وافقت وهي لا تعلم ولم تفهم ما المطلوب منها بالضبط، وحنَّت الى ليالي المجون، فذهبت الى انجلترا لتدخل الى فرنسا، وشكت الشرطة فيها وعند استجوابها لم يثبتوا انها جاسوسة فسمحوا لها لدخول فرنسا ولكنهم ارسلوا أشارة الى الشرطة الفرنسية لمراقبتها، وهناك قضت اياما صاخبة، المال والعُري والشرب، ومن حضن ضابط إلى آخر، ولكنها في هذه الفترة وقعت في حب مقاتل روسي كان يصغرها بثمانية عشر عامٍ! رجع الروسي الى دولته وهي تعذبت في بُعدِه، وارادت ان تلحقه، ولكن استوقفتها الشرطة الفرنسية وطلبوا منها ان تكون جاسوسة لصالح فرنسا، فوافقت! هذه السيدة لعبت على حبلين، طلبت السلطات الفرنسية منها الذهاب الى بلجيكا المحتلة من ألمانيا، لتتجسس على تحركات الألمان، وحتى تنتقل الى الى بلجيكا فعليها الذهاب الى اسبانيا ومن ثم الى بلجيكا، وعندما انتقلت الى اسبانيا استمرت في اللهو والمجون وكانوا جميع عشاقها سياسيين وضباط، وبعثت للسلطات النازية معلومات خطيرة ، وفي نفس الوقت كانت ترسل لفرنسا عن تحركات الألمانيين، وفي سنة 1917م اكتشف الفرنسيون رسالة ألمانية مشفرة لماتا هاري، وجزموا انها جاسوسة! فهل انقذتها علاقاتها مع السياسيين والضباط من الإعدام؟
تم إصدار الحكم ضدها بالإعدام، ففي يوم ماطر وقفت ماتاهاري بصمود امام العساكر، مستعدة للإعدام وجاء شاب عسكري مفتول العضلات واقترب منها وأخذ قماشا ابيض اللون فلم تبك ولم ترتجف ووقفت وكأنها تفتخر بمصيرها، تم إطلاق الرصاص عليها فوقعت ولكنها لم تصرخ ولم يلطخ دمها الجدار الذي كان خلفها، وقعت على ظهرها واخذت تنظر الى سماء لحين خروج روحها، فاقترب منها عسكري آخر ووجه نحو رأسها رصاصة أخرى فماتت عن عمر يناهز 41 عاما، قصتها ألهمت الكثير من مخرجي الأفلام بعد الحرب العالمية الاولى ومثَّلت الحسناوات دورها وتقمصن شخصيتها ولكنها في الواقع لم تكن جميلة، فقد كانت عادية ولكنها أغرت الرجال بحركاتها .. النهاية..






تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كتاب العزيف Necronomicon

ظهور أسطورة حورية البحر و القصص التي دارت عنها.... فما حقيقتها؟!

حيوانات مهددة بالإنقراض من العالم